سنتان من الحصار
لقد استمرت معارك عكا هذه سنتين كاملتين , فجاع الناس جوعأ شديدا حتى أكلوا الكلاب , و هنا أرسل حاكم عكا يطلب التفاوض مرة أخرى حرصاً على أرواح المسلمين , و عرض على النصارى عروضاً مغرية , فأرسل إليهم قائلا: أسلمكم عكا , و عندي خمسمائة أسير نصراني أطلقهم و أعطيكم مائتي ألف دينار ذهبي , بشرط أن تسمحوا للمسلمين أن يخرجوا من عكا بأهوالهم و أنفسهم . و وصلت هذه, الأخبار إلى صلاح الدين, فأرسل إلى حاكم عكا يخبره برفضه لهذا العرض. و لما كان النصارى قد قضوا في حصارعكا ما يقارب السنتين , و بلغ تعدادهم 250 ألفأ و لم يستطيعوا بكل الوسائل والطرق اقتحام هذا الحصن , بدأت معنوياتهم تنهار , و آمالهم تتضاءل , و أمام عرض حاكم عكا و جدوا أنه من الحكمة قبول هذا العرض , فتشاورا و قرروا الموافقة على العرض , و أرسلوا إلى حاكم عكا بذلك .
مجزره عكا ( يوم 18 جمادى الأخرة 587 هـ - 12/7/1191 م )
هل يلام حاكم عكا على ذلك بعد هذا الحصارالطويل و أمام تلك الحشود الكبيرة على أنه في فتح أبواب عكا أمام النصارى بل بدون إذن صلاح الدين 3؟! انظرماذا حدث : في هذا اليوم دخل النصارى عكا, و فوجئ المسلمون بنقض العهد , فأسر النصارى جميع المسلمين فأين العهود ؟ و أين الذمة , و صدق الله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة ). التوبة ( 10 (و قال النصارى: لا نسمح لأحد أن يخرج إلا أن تسلموا لنا جميع الأموال ,و تخرجوا بأنفسكم فقط و كذلك يدفع لنا صلاح الدين مائتي ألف دينار. إنها خيانة كبيرة للاتفاق ,و جناية عظيمة , لكن صلاح الدين أمر بجمع الأموال ( 200) ألف دينارذهبي رغبة منه في سلامة المسلمين , و أرسل إلى النصارى يخبرهم باستعداده لدفع هذا المبلغ على أن يتركوا المسلمين و بدأ النصارى يراسلونه بأنهم مستعدون , فقال لهم : أطللقوا المسلمين فنسلمكم الأموال . فقالوا سلم الأموال نطلقهم. قال : كيف نسلمكم الأموال وقد خنتم من قبل؟ و أرسل إلى كبارالقساوسة و المتدينين منهم قائلا: أعطوني العهد بإطلاق المسلمين أعطكم الأموال . فأرسل إليه القساوسة و هم أهل دين - بأنهم لا يثقون بعهود ملوكهم ,و قالوا : نحن يمكن أن نعطيك الأمان ، ولكن ملوكنا قد يخونون مرة أخرى. و أصر صلاح الدين بعد ذلك على موقفه قائلا: أطلقوا الأسرى أعطكم الأموال. لكن النصراني الصليبي الكبيرقائد هذه القوات ملك إنجلترا "ريتشارد قلب الأسد"، و بعد توقف صلاح الدين عن إرسال الأموال أمر بذبح أسرى المسلمين ، فاقتاد ثلاثة آلاف من الرجال خارج عكا ثم أجلسهم على تل خارجها , وعلى نظر من صلاح الدين « فقال لهم : أطلقوهم ولكم المال . فأمر "ريتشارد" بقتلهم جميعاً ( إنها مذبحة ,و مجزرة فظيعة , و حدث لا يكاد يصدق « ومشهد تشمئز منه حتى القلوب المتحجرة ، هكذا نقض هؤلاء الكفرة العهود، و هكذا قتل أهل عكا ، فى جريمة عظيمة استنكرها حتى المؤوخون الأوربيون أنفسهم . و هنا أرسل صلاح الدين ينادي في المسلمين : إن هؤلاء النصارى لا ينوون إلا ذبح المسلمين و راح منادي صلاح الدين ينادي في الآفاق الإسلامية , بأن فلسطين ستسقط مدينة تلو الأخرى إن لم تمدوا يد المساعدة , و لكنه لم يتلق رداً من أحد, إلا حاكم التركمان الذي وعد بإرسال قوات .
سقوط حيفا:
بعد أن سيطر "ريتشارد" على عكا , أمربتحريك الجيش نحو حيفا، و قد ترك حامية على عكا , و صلاح الدين يحاول أن يصدهم لكنه لم يصمد أمامهم , فاستطاعوا أن يدخلوا حيفا، و هي ليست محصنة مثل عكا، فاخلوها ثم تحركوا نحو "قيسارية"، و المسلمون يهجمون عليهم على شكل عمليات عصابية , لكنهم قلة لم يتجاونوا 12 ألفا، ولا قبل لهم أمام 250 ألفاً ، و النصارى كانوا لا يدخلون في معركة مواجهة , بل كانوا يتوجهون نحو المدن ، و استمر صلاح الدين يهاجمهم ، فجعلوا جزءأ من الجيش يصمد أمامه , و سارباقي الجيش إلى "قيسارية " ففتحوها ,و أصيب "ريتشارد" نفسه في هذه الهجمات بجروح . وجد "ريتشارد" أن حركته ما زالت بطيئة جدا, و صلاح الدين ما زال صامداً بجيشه ، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب المفاوضة . فوافق صلاح الدين على المفاوضة كسباً للوقت , و انتظارأ لباقي قوات المسلمين من التركمان و غيرهم , و أناب عنه أخاه العادل في المفاوضات .
معركة أرسوف
إن النصارى الآن قد سيطروا على ثلاث مدن رئيسية , و صلاح الدين ما زال مستمراً في مقاومتهم ,و لكنهم – و آثناء المفاوضات - كانوا يحركون قواتهم نحو "آرسوف" ، و فطن صلاح الدين لهذا فأرسل جيشه نحوها فسبقهم إليها و حصنها، ثم إنه التف حول النصارى , فأحاط بهم كما أحاط بهم في حطين ,و قامت بينهم معركة تسمى معركة "آرسوف"، و جعل "ريتشارد" يحمس النصارى للانتقام ، و نادى صلاح الدين بالجهاد، و تجديد أمجاد حطين ، و بدأت المعركة العظيمة ، و لكن النصارى استطاعوا أن يكسروا قوات صلاح الدين , و فرت قوات المسلمين أمام جحافل الجيوش الصليبية الأوروبية .
يروي بن شداد من المؤرخن الذين كانوا يحضرون المعارك ويكتبون التاريخ فكتب ما رأى بعينه , قال ؟ فقتل من االمسلمين سبعة آلاف من جيش صلاح الدين الذي فيه 12 ألفأ فقط ، وتمزق الجيش , حتى إني رأيت صلاح الدين وحده ومعه مجموعة من الصبيان والشباب الصغار، و رأيت العادل وحده ومعه مجموعة من الشباب .
سقوط أرسوف ويافا
لقد انكسرالجيش الإسلامي بالكامل , وتمزق أمام قوات "ريتشارد قلب الأسد" فأكمل النصارى طريقهم و فتحوا "أرسوف" ثم أعلن "ريتشارد" التحرك نحو يافا ففتحها , ثم أعلن التوجه نحو القدس و كانت هذه المدن التي فتحها صلاح الدين بعد حطين قد انهارت الواحدة تلو الأخرى , و المسلمون في العالم يشاهدون , لا أحد منهم يتحرك لنصرة صلاح الدين بعد النصرالعظيم الذي كان في حطين و الفتح العظيم لبيت المقدس .
سقوط اللد والرملة
ثم إن القوات النصرانية كانت قد بلغت 250 ألفا جاءت من أوربا, و انضم إليها 250 ألفا أخرى من النصارى الموجودين في بلاد الشام , و بدؤوا جميعا يتحركون نحو القدس, فما كان من صلاح الدين إلا أن ترك كل شىء فورا , و ذهب نحو القدس , و أمر جميع القوات الإسلامية أن تترك المدن التي هي فيها و تتوجه نحو القدس , و بهذا سبق صلاح الدين بقواته النصارى إلى القدس ,و تحصن فيها تحصنا عظيماً, و وصل "ريتشارد" إلى "الرملة", و اذا بأسوارها قد خربت ,و قد كان صلاح الدين قد أمر من كان فيها بتركها، و تخريب أسوارها حتى لا يستفيد منها النصارى , فأخذها "ريتشارد" بدون مقاومة ، و توجه نحو "اللد" فاستسلمت له ، و وجد أسوارها مخربة كذلك .
يتبع بعون الله