وصول إمدادات حلب والموصل:
وبعد فترة بدأت تصل القوات المساندة لصلاح الدين , فوصل جيش من حلب بقيادة ابن صلاح الدين الذي كان يسمى باسم "عماد الدين زنكي" سماه بهذا الاسم تيمناً بنسبته إلى عماد الدين زنكي البطل العظيم . ثم لبى النداء صاحب الموصل , واسمه علاء الدين بن مسعود زنكي , أحد أبطال أسرة آل زنكي , ومعه نخبة من شجعانهم , وبدأت هذه القوات الصغيرة تتوافد من أماكن متفرقة , وكان يجيء كل من وجد في نفسه العزيمة والغيرة على ديارالمسلمين وحماهم , بينما لم يحرك الخليفة في بغداد و الحكام و الولاة الكبار أي ساكن لنجدة جيش المسلمين في معركته المصيرية مع النصارى , ثم إن صلاح الدين جعل يهجم و يناوش بهذه القوات التي أضيفت إلى جيشه , واستطاع أن يكبد النصارى خسائر فادحة ، و يضربهم ضربات قوية ، و كانوا لا يزالون صامدين متماسكين , وكان النصارى خلال هذه الفترة يبنون أبراجاً عالية ليتمكنوا من دخول عكا واقتحام أسوارها , ومع أن عكا كانت حصينة جداء وأسوارها بالغة الارتفاع , إلا أن النصارى بنوا أبراجاً أعلى منها واستعدوا لدفعها إلى السور, فدب الرعب في أهل عكا , و ظنوا أن النصارى لا شك سيدخلون عليهم.
هجوم أهل عكا
و حاول أهل عكا أن يفعلوا شيئأ من الداخل , ففتحوا الأبواب فجأة , و خرجوا بهجوم مباغت لم يتوقعه أعداؤهم , و استطاعوا أن يهزموا النصارى , و أن يصلوا إلى خيامهم فيحرقوها , لكن النصارى صمدوا, و صدوا هذا الهجوم ، و عادوا فحاصروا عكا من جديل .و هنا فكر النصارى أن يهاجموا عكا من البحر , لكن كان يعترضهم برج كبير يحمي عكا , مبني داخل البحرعلى صخور عالية , فأي هجوم من البحر كان يعترضه الذين في البرج , فيرسلون على المهاجمين النيران , ويرمونهم بالنبال , فقررالنصارى أن يحرقوا هذا البرج , أو يكسروه , لعلهم يستطيعون الهجوم على عكا من البحر. فتحركت ثلاث سفن فدائية نصرانية ,بنوا على السفينة الأولى برجأ من أجل إشعال النار في برج عكا الذي هو في البحر. و سفينة ثانية فيها النفط للالتصاق بسفن المسلمين التي في ميناء عكا , حتى يلتصقوا بها و يشعلوا النار بأنفسهم , فتنتقل النيران إلى ميناء عكا جميعاً . و السفينة الثالثة بنوا فيها قبواً كبيرأ ملؤوه بالجنود، فمهما جاءتهم النبال فلا تصيبهم لأنهم داخل السفينة . و فعلا تقدمت السفن الثلاث بحركة في منتهى الخطورة و الفاائية على عكا , و أشعلوا النيران في البرج , و في السفينة التي ستحرق سفن المسلمين , لكن الله عزوجل يقدر أن تعصف الرياح ، فمنعت سفنهم من أن تقترب من سفن المسلمين , فاشتعلت سفنهم و هي في البحر, وهجم المسلمون على السفينة التي فيها النصارى فقتلوا كل من فيها , و أطفؤوا النار في البرج , ففشلت تلك الحملة التي كانت تشكل خطورة كبيرة على المسلمين.
كبش من حديد:
ثم إن النصارى قرروا أن يهجموا مرة أخرى على البرج , فصنعوا كبشاً كبيراً من حديد و قدموه على خشبة طويلة , و وضعوا هذه الخشبة بهذا الكبش على سفينة , و راحوا يقتربون من البرج يريدون أن يضربوه بالكبش . و في الوقت نفسه أمروا بهجوم بري , فاندفعت قواتهم من البر و البحر. و عندها شعر أهل عكا بالخطرالشديد , فهذا الكبش الحديدي يمكن أن يكسر برجهم . فنذروا أنفسهم , و هاجموا من البر و البحر, و بدأت سفنهم تقترب من السفينة التي فيها الكبش , و استطاع بعض المسلمين أن يتسلق السفينة التي فيها الكبش , و يحرق الكبش قبل أن يصل إلى البرج .
الهجوم بالدبابة :
و لم ييأس النصارى , فصنعوا مجدداً ما يسمونه "الدبابة" و هي آلة زاحفة، صنعوها من خشب ، لكن فوقها ثلاث طبقات من المعادن حتى لا يستطيع المسلمون أن يحرقوها، و بدأت هذه الدبابة تقترب نحو سورعكا . فبدأ المسلمون يضربونها بالنفط المشتعل ليلا نهاراً، و بالرغم أنها مغطاة بالمعادن القوية ، إلا أن النفط تسرب أخيرأ إلى داخلها , و أحرق الخشب فيها، فاشتعلت وسقطت.
وصول ملوك النصارى:
لقد استمرت هذه الأعمال و الحصارعلى عكا ستة شهور, و في هذه الأثناء كانت القوات الأوربيه قد وصلت , فوصل ملك فرنسا "فيليب أغسطس" بجيش من فرنسا, و جاء ملك ألمانيا "باربروسا" و هذا كان مشهوراً في التاريخ الإسلامي و الغربي بذي اللحية الحمراء , جاء بجيشه عن طريق البحر, لكنه غرق في الطريق فتمزق جيشه , و رجع معظمه , و أكمل باقي الجيش دربه نحو عكا . و جاء كذلك الجيش الإنجلين ي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" .هذه الجيوش استغرقت رحلتها ستة أشهر, رغم تأخر الجيوش الإنجليزية و الفرنسية التي جاءت عن طريق البحربسبب مناوشات المغرب من جهة , وبسبب صقيلية التي سرقت بعض سفنهم من جهة أخرى , فاضطر "ريتشارد" أن يتوقف لتأديب صقيلية و السيصرة عليها . و بهذا سيطرت الجيوش الأوربية على صقيلية , و قبرص , و انطلقت نحو فلسطين, و أمد أهل قبرص هذه الجيوش , بعشرة آلاف مقاتل , فتجمع لهم 250 ألف مقاتل وصلوا إلى عكا ,و معهم الرجال و الذخائر, و صارالضرب عليها من جهة البر و البحر.و ظل صلاح الدين يحاول أن يخترق الحصارالبري , و يضربهم ليل نهار بالمنجنيق ,و يشدد الهجوم و الضرب عليهم من غيرراحة , لمدة يومين كاملين ,عدا ساعتين أو ثلاثاً توقفوا للراحة ، و لكن قوات النصارى كاتت صامدة , فما استطاع صلاح الدين أن يكسرهم .و ساءت الأحوال جداً داخل عكا لشدة الضرب و الحصار, فما يستطيع أحد أن يدخل أو يخرج, و كان صلاح الدين لشدة الحصار يتراسل معهم بالحمام الزاجل .
تزعزع أسوار عكا
و استطاع النصارى أن يقتربوا من سورعكا، و يكسروا جزءا منه , فصار الخطر داهما على المسلمين و حاول أهل عكا أن يسدوا هذه الثغرة , و صارالقتال مباشرأ عندها , و صلاح الد ين لا يزال يهاجم جيوش النصارى من الخلف , لكن عكا بدأت تتزعزع بعد أن انهدم جزء من السور، و شعر حاكمها المسلم بالخطرالشديد فلو أنهم دخلوا عكا – و هم على وشك - سيفعلون بها مثل ما فعلوا في بيت المقدس , فخاف هذا الحاكم ، و أرسل يفاوض النصارى -بدون إذن صلاح الدين - ليسلم لهم عكا بشرط أن يعطوا الأمان لأهلها , و لا يقتلوا منهم أحداً . فرد عليه "اريتشارد قلب الأسد" و"فيليب أغسطس" برد عنيف ، و قالا: بعد أن صارت عكا في أيدينا تريد أن تسلمها , إننا لن نعطيك الأمان (. فهنا نادى حاكم عكا في المسلمين « و قال : لا نسلم حتى نقتل جميعأ، و أرسل إلى النصارى و قال لهم : لا يقتل واحد منا حتى نقتل خمسين من أكابركم ,و رجع إلى الجهاد بعد أن كاد يستسلم .
فشل المفاوضات:
و هنا بدأ النصارى يتشاورون , و رأوا أنهم لن يفتحوا عكا إلا بخسائر فادحة جداً، لأن فتح مدينة من داخلها ليس أمرأ هيناً , ففكروا في التفاوض ,و أرسلوا وفدين , الأول إلى صلاح الدين , و الثاني إلى حاكم عكا، فاشترط صلاح الدين أن يطلق جميع أهل عكا، وبالمقابل سيطلق الأسرى النصارى الذين عنده ,و خلال هذا التفاوض جعل النصارى يماطلون بهدف كسب الوقت , ليرتبوا أكبرعدد من المواقع . و عرف صلاح الدين هذا منهم ، فأمر- و هو يتفاوض - بالهحوم , ليكون تفاوضه تفاوض الشجعان , ومن مركزالقوة , لا من مركزالضعف و الاستسلام , لكن هذه المفاوضات فشلت ، كما فشلت هجمات صلاح الدين ، و أصبح أهل عكا في حرج شديد , فلا المفاوضات آتت أكلها ,و لا الهجوم الذي شنه صلاح الدين استطاع أن يفعل شيئأ , و رفض النصارى إعطاء الأمان لهم ، فأصابهم الضيق الشديد، و انتشرت المجاعة في أهل عكا. فتنادوا و بدؤوا يتبايعون على الموت , و رأوا في الموت الشريف في الجهاد خيرا من الموت بعد اقتحام عكا على أيدي النصارى , و صلاح الدين بجيشه الصغير ما زال يهاجم 250 ألفأ من جيش النصارى ، و يرسل الرسائل لتثبيت أهل عكا.
يتبع بعون الله...